التأمل والإسترخاء
إعداد: إميل سمعان
في عصر الضغوطات والتنافس الشرس, والشعور بالتوتر والقلق والإحباط ومواجهة الضغوطات والمشاكل, تزداد حاجة الناس في عصرنا هذا, إلى طرق وأساليب سهلة ومبسطة نابعة من البيئة والتراث يمكن اللجوء إليها لتساعدنا في الإسترخاء والهدوء وإعادة تنظيم التفكير. بل وإعادة برمجة العقل لصياغة وترتيب أفكاره وأهدافه, وأيضاً من أجل تخلصه من الإضطرابات النفسية والإنفعالات السلبية وإختلال التوازن والقدرة على التوافق النفسي والإجتماعي.
ولا شك أن كل إنسان يحتاج, من وقت لآخر, أن يخلو بنفسه ويبتعد قليلاً عن صخب الحياة ومشاكلها, ليفكر بهدوء, ويتفحص ويقيّم أفكاره وخبراته والمواقف التى تعرض لها ثم يحدد لنفسه خطة عمل ويتخذ القرارات ويحدد لنفسه الخطوات التالية.
لذا فإن التأمل والإسترخاء أو ما يسمى الخلوة العلاجية, تتضمن تدريب الشخص على التخلص من الأفكار السلبية الإنهزامية المعوقة والمخاوف والوساوس المزعجة والمواقف والذكريات المؤلمة, بحيث يصل إلى درجة أن يأمر ذهنه بالتوقف فوراً عن التفكير فى هذه الأفكار السلبية أو أن يطردها من ذهنه ويحل محلها أفكاراً إيجابية تشحن طاقاته النفسية وتحفزها للإنطلاق من جديد فى الإتجاه الصحي السليم وتكمله مشوار الحياة بعزيمة وإرادة لا تلين.
والتأمل, هو أسلوب علاجي نابع من حياتنا اليومية والدينية, دلالة على ذلك خلوة الرهبان أو كل إنسان متديّن حين يقرأ في كتابه الديني الشخصي. وهذا التأمل قد أثبت فعاليته, في كثير من الحالات, على أساليب العلاج النفسي الأخرى واليوم هناك الكثير من المجموعات التي تعقد جلسة تأمل مشتركة لما فيها من نتائج إيجابية فعّالة.
لقد كان الهدف من إستخدام أسلوب الخلوة العلاجية أو التأمل هو تحويل النصائح والمواعظ والأفكار الإيجابية إلى أفكار نشطة وفعالة بغرسها فى الذهن عن طريق التأمل. والتكرار فى حالة من التركيز الذهني العالي وفى جو من الهدوء والإسترخاء يسمح بتحويل هذه المنظومات الأخلاقية والصياغات اللفظية إلى مفاهيم ومعتقدات تدفع الفرد دائماً إلى السلوك المرغوب.
ويمثل الحوار الذاتي أهمية قصوى فى الخلوة العلاجية حيث يعتبر تعديل الحوار الذاتي, ما يقوله الشخص لنفسه, إلى جمل إيجابية حماسية متفائلة من أهم خطوات الخلوة العلاجية. حيث يقوم الفرد ببناء وتصميم هذه الجمل والعبارات الإيجابية الصحية ويكررها بتركيز ذهني عالي ويجعلها تحل محل الجمل والعبارات السلبية التى يقولها لنفسه, والتي تتسبب فى التوتر والإكتئاب وهزيمة الذات.
ولا شك أن الخلوة والتأمل هي من الخصائص المميزة للشخصية الريفية والقروية بشكل عام, وأن الإعتماد في السابق والزمن القديم, على الرعي والزراعة قد أتاح الفرصة للتأمل والانطلاق بالخيال فى أماكن رحبة متسعة لا يقوم النشاط الإنساني فيها على التحديد والضبط والدقة الشديدة التى تتميز بها المجتمعات الصناعية, وقد أدركت المجتمعات الصناعية والمدنية أهمية تنمية القدرة على التأمل ودوره فى الصحة النفسية بل وفعاليته فى العلاج النفسي.
إن الخلوة تحقق للشخص فرصة سانحة بالإسترخاء الذهني والجسدي الذى يحتاجه فى ظل ظروف وضغوط هذا العصر وهى أيضاً فرصة للتدريب على الضبط الذاتي لطرد الأفكار السلبية والإنهزامية وغرس الأفكار الإيجابية وإعادة تقييم سلوكياته ومتابعة التدريب عليها وهي فى النهاية يمكن أن ينظر إليها على أنها أسلوب سهل يناسب الشخصية ويساعدها على تثبيت وغرس منظومة القيم والأخلاقيات وتحويلها إلى أنماط سلوكية وعادات راسخة, ولا أعتقد أن هناك وسيلة أخرى فى ظل التشتت الذى تمليه علينا الفضائيات والثقافات والعادات المثيرة والمبهرة التى تخترق حياتنا من كل إتجاه يمكن أن تقوم بتحويل النسق الوعظي والتعليمات الخطابية والحكم البلاغية إلى سلوكيات عملية إلا من خلال التدريب على إعادة برمجة العقل والتأمل بأسلوب التأمل وهى فى النهاية محاولة لتحويل الثقافة التقليدية بإزدواجياتها وما تسببه من صراعات نفسية تستهلك طاقات الفرد فقط فى حدود الخطابة والهتاف بمكارم الأخلاق لحظات الحماس ثم تبخر هذه الشعارات الإنفعالية بعد لحظات ونسيانها.
أما عن مفهوم الخلوة والتأمل فى التراث الديني فهو يشمل العديد من المفاهيم والمعاني منها ترك مشاغل الدنيا والتفرغ لذكر الله ومناجاته وأن يخلو الإنسان بنفسه لكي يتأمل عالمه الداخلي ولكي يتعبد ويحاسب نفسه على أخطائها. ولكي يزيد نفسه صقلاً وصفاء.
فوائد الخلوة والتأمل:
ولقد رأى العديد من العلماء أن فى التأمل فوائد ومميزات كثيرة منها:
- تفقد أحوال النفس.
- تهذيب الأخلاق. والبعد عن قسوة القلب.
- إدراك العقل وحواسه في الحالات العادية.
- لذة المناجاة.
- محاسبة النفس ومعاتبتها.
- الشعور بالسلام الداخلي.
- الشعور بالانسجامية بين الروح العقل والجسد.
- ترتيب الافكار وتسلسل الاولويات.
- الطمأنينة والهدوء.
- إكتشاف المعاني العميقة للذات.
- إكتشاف رسالتك في الحياة.
- ترتيب الطاقة الداخلية .
- تساهم وتساعد على فتح البصيرة والعين الثالثة.
- تنشيط مراكز الطاقة – التشاكرات.
وهكذا فإن التأمل والخلوة تتيح للإنسان الإبتعاد المؤقت عن عالم الضوضاء والهرج والمرج إلى واحة الخلوة بهدوئها وما تمنحه إياه من صفاء ذهني ونفسي يجعله يرى بوضوح حقيقة وأسباب مشاكله وهمومه. ويرتب أفكاره وخططه وأهدافه. ويشحن قواه المعنوية. ويشحذ همته وشجاعته لمواجهة الصعوبات. وإستعادة عزيمته ومضاعفة ثقته بنفسه. وإدراك أن ضغوط الحياة ومشاكلها لا تستحق كل هذا العناء وأن الإنسان يستطيع أن ينجو منها إذا دخل إلى واحة الخلوة وأطلق العنان لخياله وتأملاته.
والتأمل بما يحتويه من تخيل وحوار ذاتي, وجميعها عوامل فكرية, تساعد على تعديل إنفعالات الفرد وسلوكه.
لقد ثبت بالعديد من الأدلة التجريبية أن العوامل الفكرية التى تشمل التفكير والتخيل والتصور والإستنتاج والتوقع, تتصل وتؤثر فوراً على مراكز الإنفعال بالدماغ التى تفرز بالتالي عدداً من الهرمونات والمواد الناقلة العصبية المسببة للتوتر والتغيرات الفيزيولوجية المصاحبة له.
ومن هرمونات التوتر المعروفة هرمون الأدرينالين الذى يؤدى إفرازه إلى توتر العضلات وخفقان القلب وإرتفاع ضغط الدم وزيادة معدل التنفس, وإتساع حدقة العين, ونقل كميات كبيرة من السكر من الكبد إلى الدم حتى تتوفر الطاقة والوقود للمعركة التى إستعد لها الجسد بأمر من مراكز الإنفعال تحت تأثير العوامل الفكرية المخيفة والمهددة, ويصاحب هذه التغيرات أيضاً تعطل عمليات الهضم وإضطراب إفراز العصارات المعدية والمعوية.
كما تساعد الخلوة العلاجية والتأمل الشخص على التدريب على ضبط الإنتباه والتحكم فيه. وبتكرار ممارسة جلسات التأمل يكتسب الفرد قدرة أكبر على طرد الأفكار الهدامة وتحويل إنتباهه وتركيزه إلى شيء آخر مضاد يحقق له الطمأنينة والهدوء والسكينة.
وبعد فترة من ممارسة الخلوة يشعر الشخص بسهولة التخلي عن التفكير السلبي والإندماج القهري فى الأفكار والمواقف المؤلمة. كذلك يفيد ذلك التدريب الشخص على التحكم فى درجة التهيؤ الذهني. بالتركيز على موضوع إيجابي مرغوب بوضعه فى بؤرة الوعي والشعور مع إستخدام التكرار والترديد بأسلوب يماثل التسميع الذاتي الذى يستخدمه الطلاب لإبقاء معلومة معينة فى حالة نشطة فى الذاكرة. ويرى بعض علماء النفس أن أصحاب القدرات والمهارات الفائقة يحققون قدراتهم الخارقة بتكرار تركيز الإنتباه والتهيؤ الذهني وحصر التفكير فيما يريد ذلك الشخص إنجازه.
جلسة التأمل والخلوة العلاجية:
تبدأ جلسة الخلوة العلاجية بإعداد وتجهيز المكان الملائم. والذي يجب أن يتصف بالهدوء وعدم وجود ما يشتت الإنتباه من ضوضاء أو أصوات أجهزة تليفزيون أو مذياع وخلافه. وأن يوجد في هذا المكان مقعد مريح. وساعة لتحديد الوقت. ويفضل إغلاق الهاتف. أنا أفضل الإستماع إلى موسيقى هادئة وإضاءة بعض الشموع بالغرفة. كما يجب أن يكون المكان مريحاً نظيفاً. ويمكن تزويد المكان ببعض الزهور أو النباتات.
ومدة جلسة التأمل 30 دقيقة يوميا أو 3 مرات أسبوعياً, ويقسم وقت الجلسة على خطواتها الثلاث بحيث تستغرق كل خطوة حوالي 10 دقائق تقريبًا. ولكي يحقق الفرد التحسن المرغوب والتغير الإيجابي الذي يبقى لفترات طويلة يجب أن يمارس التأمل العلاجي لمدة 3 شهور على الأقل. ولا تتعارض جلسة التأمل العلاجية مع تناول العقاقير المهدئة أو المضادة للقلق أو الإكتئاب إلا إذا كان الشخص فى حالة تهدئة زائدة بسبب تلك العقاقير.
ويجب أن نشير إلى أن جلسة التأمل يمكن أن تؤدى أيضاً إلى نتائج جيدة إذا لم تتوافر هذه الشروط جميعاً. بل أن البعض إستطاع أن يحقق فائدة جيدة من ممارسة الخطوة الأولى فقط من خطوات التأمل وفى وقت أقل من نصف الوقت المذكور.
كيف ندخل إلى مرحلة التأمل:
إستلقي في وضعية مريحة على الأرض (هذه الطريقة الأفضل) أو على سرير, وأغلق عينيك وخذ نفسآ عميقآ من الحجاب الصدري ثلاث مرات, إبدأ بالعد التنازلي من 10 إلى واحد, عندما تصل إلى الرقم واحد تخيّل نفسك في مكان هاديء تحب أن تتواجد به. بعدها حاول شدّ كل مجموعة من العضلات مع العد حتى الخمسة ثم أرخها. إبدأ بالحاجبين والجبين. وبالنسبة إلى الفك والوجه إفتح فمك قدر الإمكان.
ثم شد العنق وعضلات الكتفين. إرفع الذراعين وشدهما, ثم شد عضلات البطن والوركين. إرفع في الوقت نفسه الساقين وشدهما ثم أرخهما, وإفعل الشيء نفسه بالنسبة للقدمين.
في كثير من الأحيان تأتي مشاعر أو صور مفاجئة خلال التأمل في البدايات أو بعد الممارسة, هذه المشاعر والصور سلبية أو إيجابية مهمة فهي كالأحلام لها معان عميقة. أنت الآن تحلم وأنت في اليقظة. قد تكون أحياناً المشاعر قوية بسبب التراكمات أو الكبت أو المواقف المؤلمة الكثيرة أو بسبب عدم التعود على الإسترخاء, إقبلها وخذها ببساطة. وإعلم بأنها الآن تتنفس وتخرج للسطح.
يمكن إيجاز خطوات الخلوة العلاجية كالآتي:
الخطوة الأولى: "الخروج من الدوامة":
تهدف هذه الخطوة إلى:
أ- الخروج الفوري من التوتر والقلق والإنفعالات غير المرغوبة بالإسترخاء والتنفس العميق ببطء ولمدة خمس دقائق تقريباً.
ب- الخروج أيضاً من لعبة تبديد وإهدار الطاقات النفسية والذهنية بأن يصدر الشخص الأوامر لعقله ومخيلته بطرد جميع الأفكار الإنهزامية السلبية وأن يطرد أيضا وبحزم أي تخيل أو تصور مكروه أو مزعج أو مخيف.
ج- إصدار أوامر للعقل بالتسامح والعفو.
الخطوة الثانية : "التأمل والتشبع بالرضا والإقتناع":
تهدف هذه الخطوة إلى:
أ- أن يتأمل الإنسان ويستعرض النعم الذى وهبه الله إياها. وأن يستخدم مخيلته وذاكرته في إستعراض هذه النعم.
ب- أن يكرر وهو يستعرض هذه النعم وما حققه من إنجازات, مهما كانت قليلة ومحدودة.
الخطوة الثالثة: "شحن وتوجيه الإرادة":
وتهدف هذه الخطوة إلى:
أ- تعديل الحوار الذاتي وما يقوله الفرد لنفسه أثناء التأمل بحيث يصيغ جملاً وعبارات حماسية وإيجابية تغرس فى نفسه الحماس والعزيمة والأمل.
ب- إعادة صياغة الأهداف وخطوات تحقيقها. ويمكن أن يسجل الهدف المراد تحقيقه فى ورقة متابعة يحتفظ بها الشخص كنموذج لخطة عمل مبسطة تجعله يركز دائماً على هدفه ويتجنب التشتت في المشاكل والمشاغل الجانبية وأن يراعى التدرج والإستمرارية بصبر لتحقيق ذلك الهدف وأن يستعين بالدعاء وطلب العون والمدد من الخالق.
ج- كذلك فان الخلوة العلاجية تمثل فرصة لمناجاة الخالق سبحانه وتعالى والتواصل مع الملائكة والمرشدين الروحيين لك.
وتمهد كل خطوة من هذه الخطوات الطريق للخطوة التالية. فالخطوة الأولى تخفض درجة التوتر والقلق والإنفعالات غير المرغوبة, فتسمح للذهن بالتأمل وغرس الشعور بالرضا. والذي يؤدى بالتالي إلى مزيد من التحرر من الشحنات الإنفعالية. فتتحسن القدرات الذهنية وتزداد القدرة على التركيز والأداء الذهني والحماس والدافعية مما يضاعف من القدرة والإرادة لإنجاز الأهداف المرغوبة.
لقد أفادت دراسات أمريكية وأوروبية بأن الـتأمل قد يفيد في علاج حالات الأرق عند الأفراد, فهو يحسن من نوعية النوم لديهم ويزيد من طول مدته. ويساعد على التخلص من الأفكار السلبية ومعالجة التشنجات بالإضافة لمعالجة أمراض عديدة .
للتأمل الذاتي ثلاثة أبعاد رئيسة هي:
1 – المراجعة الفكرية, حيث يقوم الفرد بمراجعة أفكاره وقناعاته وتمحيصها لتثبيت الصحيح منها, وإستبعاد الأفكار الخطأ.
2 – المراجعة النفسية, حيث يحاول الإنسان التعرف على صفاته الشخصية من خلال عدد من الأسئلة بهدف إصلاح الفاسد منها لتغيير الذات وتطويرها.
3 – المراجعة الاجتماعية والسلوكية, حيث يراجع الفرد قوي الإرادة سلوكه مع الآخرين, بهدف الإرتقاء بعلاقاته الإجتماعية.
وبالنظر إلى الفوائد المتعددة للتأمل, فما أحوج كل فرد منا إلى أن يتوقف مع ذاته, يكاشفها ويكتشفها, ويراجع أفكاره وصفاته وسلوكه, ويسأل نفسه عما إذا كان راضياً عن مقومات شخصيته, أم أن بعضها بحاجة إلى تغيير أو إصلاح, ثم يعقد العزم على التغيير فيبدأ خطوات التحرر من السلبيات التي تثقل نفسه.
ملاحظة: كما ذكرت وأذكر دائماً, بأن هدفي من الموقع ومن الكتابة هي تزويدكم بالمعلومات, هناك من يوافق وهناك من يعارض على كتاباتي وهذا منطقي جداً. ومن منطلق حرية التعبير عن الرأي وإحترام الرأي الآخر أدعوكم للكتابة والنقاش البناء للمساهمة في بناء مجتمع مثقف وحضاري.
وفي النهاية أتمنى لكم ولجميع أفراد عائلاتكم الصحة والعافية.
الأخصائي إميل سمعان
زورونا في المركز وستشعرون في التغيير